الهجرة وأزمة الأمةد. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الهجرة وأزمة الأمة .. موضوع مهم نحتاج إليه ونحن مازلنا في أفياء هذه الهجرة وفي ضلالها .. ونحن قريبي عهد بالأمس بالعاشر من محرم وما فيه من فضيلة وما له من مزية .
ولعلنا نقف وقفات سريعة عابرة فيما قبل الهجرة ، وفي أثنائها ، وفي أوائل ما بعدها ؛ لننظر في هذه الهجرة نظراً اعتبارياً يعيننا على فهم حقائق واقعنا ، وعلى أن نبث في قلوبنا من يقيننا وإيماننا ، ومن قدرتنا وقوتنا ما يزيل ذلك الوهن ، وينفي ذلك الضعف ، ويمحو تلك الذلة التي تضلل على أمة الإسلام إلا من رحم الله.
صورة من الثبات على الدين عندما قبل المسلمون الأوائل دعوة سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - ودخلوا في الإسلام ، وأيقنوا بالإيمان .. واجهوا عداء قريش وأذاها وعنادها ، فأي شيء كان منهم ؟ لنرى كيف كان أثر الدين في حياة المؤمنين ؟ وما مكانته عند المسلمين ؟
كلنا يعلم تلك الرمضاء الحارقة من شمس مكة ، وهي تسطع على بلال تحت الصخر ، يعذب ويضطهد ، ويؤذى أشد الأذى وهو يهتف : " أحدٌ أحد " ، لا يقبل أن يعطي الدنية في دينه ، ولا أن يغير معتقده ، ولا أن يساوم على إيمانه.
وصهيب ، وما أدراك ما صهيب ! وخباب ، وما أدراك ما خباب ! بقي أثر السياط على ظهره إلى يوم وفاته بعد عقود من الزمان ، كان يجلد حتى يختلط لحمه بجلده بدمه حتى يبلغ الأمر به مبلغاً جاء يشكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تدعوا لنا ألا تستنصر لنا فيثبت بمثبت الإيمان صلى الله عليه وسلم ، ويرد الأمر إلى ضرورة القوة في الدين والثبات عليه ( كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه ، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين ، وما يصده ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أوعصب ، وما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) .
فنزل الإيمان راسخاً في القلوب ، وسرى الإسلام جرياً مع الدماء في العروق ، فثبّت ذلك الإيمان .. حتى جاءت الهجرة من بعد ليست فراراً من المواجهة ، ولا خروجاً من الثبات على الدين ، لكنها تأكيداً أولوية الدين في حياة المسلمين.
جاءت هجرة الحبشة الأولى والثانية ولسنا في مسرد السيرة ، ولكننا نشير إلى الومضات التي تبين أنه لا دنية في الدين.
لما جاء عمرو بن العاص - وكان آنذاك رسول قريش - ليرد المهاجرين إلى مكة ، وجاء إلى النجاشي بما جاءه من الهدايا والأحاديث ، فطلب النجاشي - العادل - الطرف الأخر ليستمع بعد أن أساء عمراً القول ، وشوّه السمعة ، وأبثَّ الفتنة ، وأشاع الخلاف ، فجاء جعفر ابن أبي طالب مع بقية أصحابه المهاجرين .. أي صورة كانوا يمثلون ؟ صورة إيمان وإسلام ، مجتمعين موحدين ، ليس بينهم افتراق آراء ، ولا تباين أهواء ، ولا تعارض مصالح ، جمعوا كلمتهم ، واختاروا متحدثهم ، وأيقنوا بأنه لابد من أن يكون لهم موقفهم ، فماذا قال جعفر رضي الله عنه ؟
إنه كان يريد أن يحافظ على مصلحة المسلمين ، وأن يبقي على وجودهم وأن يوفر أمنهم وأن ييسر رغد عيشهم لكنه بحال من الأحوال هو ومن معه لا يمكن أن يكون ذلك كله على حساب إيمانهم أو على حساب إسلامهم فجعل حديثه إعلان بمساوئ الجاهلية وإظهاراً لمحاسن الإسلام فقال رغم حرصه على أسلوب يحفظ للمسلمين مصالحهم : " أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه ، وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، فعبدنا الله وحده ، فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك " ، وانظروا إلى لغة السياسة الإسلامية الإيمانية " فعذبونا وفتنونا عن ديننا ، ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فخرجنا إلى بلادك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ،ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك " ، فهل في هذا نفاق سياسي ؟ وهل في هذا دنية دينية ؟ إنها حنكة مع إظهار الإسلام ، مع إعلان دعوته ومع إظهار محاسنه ، ومع الوقف مع المبدأ الحق دون تميع ولا تنصل من حقائقه ومبادئه.
وكان ذلك موقف حكيم دفع عنهم الأذى ، ولم يوقعهم في حرج من دينهم الإسلامي ، فهل اكتفت الجاهلية ومبعوثها الداهية عمرو بن العاص - وكان على شركه إذ ذاك – قال : والله لأتينهم الغداة بما يبيد خضرائهم ، وغدا على النجاشي .. يريد أن يشعل الفتنة وتأليب وتشويه بقوله : إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً ! يعلم من النصرانية أنهم يقولون : " عيسى هو الله وابن الله " ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ..
وجاءت هذه المعضلة والطامة المشكلة ، والمعجزة المربكة المحيرة .. وجودهم وأمنهم وعيشهم ورغدهم أو موقفهم ودينهم وعقيدتهم : ما تقولون في عيسى؟
أي شيء يقول جعفر ؟ وأي بيان يظهر المسلمون ؟ هل يبدلون أو يغيرون ؟ هل يحافظون على دينهم أم على حياتهم ؟ قالوها كلمات واضحة : " نقول فيه الذي جاء به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ".
لا دنية في الدين ، لا مساومة في العقيدة ، لا تغيير في الإيمان والإسلام .. أي شيء جرى لهم أي مصيبة حلت بهم أي نكبة نزلت عليهم لم يحصل من ذلك شيء ؛ لأن من كان مع الله كان الله معه ..
قال النجاشي : " والله ماعدا ما قلتم فيه عودي هذا " ، فنخرت البطارقة ، قال : "وإن نخرتم ! " ، ثم قال لهم : " أنتم شيوم بأرضي ، لا يعتدي عليكم أحد " ؛ لأنهم أهل مبدأ ، أهل يقين ، أهل عزة ، أهل وضوح لا أهل تميع وذلة وترخص والتماس عرض من الدنيا بضياع الدين نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم جاءت الهجرة الكبرى ، وجاء الإذن الرباني من الله – عز وجل - للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، بعد أن تهيأت الأسباب ، وبعد أن أدى الجهد منه ومن أصحابه - رضوان الله عليهم - فأي شيء كانت الهجرة ؟ أي درس أعظم فيها ؟
إنه التضحية بكل شيء من أجل الدين .. كلنا يعلم هجرة أبي سلمة ومعه أم سلمة ومعهما ابنهما سلمة يمضي تاركاً وراءه دنياه ، مخلفاً وراءه حياته الأولى ومراتع صباه ، وذكريات شبابه ، يمضي إلى الله ورسوله ، إلى مرضاة الله ، وإلى طاعة الله ، إلى التزام دين الله ، إلى إعلاء راية الله ، فيأتي أهل زوجته ويقولون له : " هذه نفسك قد غلبتنا عليها أما ابنتنا فلا تمضي معك " ، فأخذوا زوجته فجاء بنو أسد - أهله - بعد أن مضى ، قالوا : " هذه ابنتكم أخذتموها أما ابننا فنأخذه " ، فأخذوا الابن في جهة ، والأم في جهة ، والأب الذي يرى زوجته تؤسر وابنه يقهر هل يصده ذلك عن المضي إلى مرضاة الله ؟ وهل يضعف يقينه بالله ؟ وهل يستسلم لظروفه وما تدرّ به في هذه الحياة ؟ كلا ! مضى إلى الله مهاجراً ، ثم ماذا ؟ تمّت له هجرته وألحق الله له زوجته وابنه من بعد.
وصهيب ، وما أدراك ما صهيب ! غنيمة الحياة الدنيا كلها وثمرة جهده وتجارته وصناعته يخرج مهاجراً ، يحيطون به قائلين : جئتنا صعلوكاً وتخرج من بين أيدينا تاجراً ثرياً ؟! فقال : أريتم لئن أعطيتكم مالي أأنتم تاركي ؟! قالوا : نعم ، قال : فإنه في مكان كذا وكذا ، فذهبوا عنه ..
ذهبوا بماله كله ، بدنياه كلها ، بأيامه ولياليه وجهده وشقاء عمره ، فهل حزن لذلك ؟ وهل مضى كسيف البال أو رجع مشدوفاً إلى المال ؟
مضى إلى الله عز وجل فاستقبله سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو يقول : ( بخٍ بخٍ .. ذاك مال رابح ) وتتنزل الآيات : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد } [ البقرة:207 ] ، بيعة وصفقة رابحة.
وعبد الله ابن جحش وزوجه وأخوه أبو أحمد -كان أعمى ضريراً لا يرى وكان شاعراً - أهل بيت خرجوا جميعاً ، لم يبقى منهم أحد ، خلفوا وراءهم الديار قطعوا العلائق ليسموا إلى ما هو أعظم وأعلى من شأن الدين والإيمان واليقين.
مرّ عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وأبو جهل فرأى عتبة هذه الديار وقد خلت من أهلها ، والريح تخفق فيها يباباً .. نظر إلى من تركوا الدنيا ، إلى من تركوا الديار .. نظر متأملاً متعجباً ، ونظر كذلك بنظرة إنسانية حزينة متأملاً ثم قال :
وكل داراً وإن طالت سلامتها **** يوماً ستدركها النكباء والحوب
فقال أبو جهل : " ذاك ما فعل ابن أخيك فرق جماعتنا وشتت شملنا " ، وذلك هو حال الطغاة المجرمون مجرمون ويفعلون الجريمة ، فإذا التمس الناس منها خلاصاً صاروا هم المجرمون ، وصاروا هم الإرهابيون كما نرى في واقع حالنا اليوم.
أما أبو بكر وما أدراك ما أبو بكر ! وقته وعمره ماله وثروته أهله وبنوه داره وأرضه ريحه ونفسه كلها كانت تضحية في الهجرة ، حبس نفسه لصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أشهر ، وهيأ ماله وعلف راحتيه ، وترك زوجه وأبناءه ، وترك داره وأخذ كل ماله ومضى مخاطراً بروحه وبنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى جاء الموقف العظيم ووقف المشركون على فم الغار ، وإذا بأبي بكر شفقة ورحمة يقول : يا رسول الله لو نظر أحدهم موضع قدمه لرآنا ! فينطق اليقين والثبات والإيمان على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم : ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ).
وتتنزل الآيات تصف هذه المواقف العظيمة: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التوبة: من الآية40 ].
من يحزن والله معه ؟! من يضعف والله يعينه ؟! من يذل والله يعزّه ؟! من يخاف والله يؤمنه ؟!
ذلك درس التضحية العظمى في هذه الهجرة تضحية لأمر الدين تقول لنا إن الأولوية في حياة المسلمين لأجل الدين.
كان محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة سيد سادتها ، وشريف أشرافها ، وذو الذروة العليا في أنسابها وقد جاءته قريش قالوا لو تريد مالاً لجمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاً عرضوا عليه دنياهم كلها فركنها برجله وداس عليها بإيمانه ويقينه واستعمى عليها بسمو إسلامه ويقينه عليه الصلاة والسلام.
لم تكن حياة المسلمين رغبة في الدنيا ، ولا سكون إليها ، ولا طلب إلى السلامة .. ولو كان ذلك كذلك لعاشوا مسالمين موادعين وحسبهم في ذلك أن ينكفئوا في دارهم أو أن يؤدوا شعائرهم لكنه الإيمان والإسلام أولى الأولويات في حياة المسلمين.
ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناي ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة ، لكن الهجرة أمرٌ آخر .. إنها إكراه رجل آمنٌ في سربه ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وتضحية أمواله والنجاة بشخصه وحسبه ، وإشعارٌ بأنه مُستباحٌ منهوبٌ قد يهلك في أول الطريق أو نهايتها ! لكنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش .
من دروس الهجرة درسان عظيمان نذكرهما ذكراً ولا نقف عندهما طويلاً ؛ لأننا نُريد من بعد أن نُذّكر بهذه الدروس كلها في محور واحد نربطه بواقعنا المؤلم المُحزن المؤسف في كثير من أحواله ، من هذه الدروس وجوب الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام .
وخلاصة هذا الدرس :
أن الدين وإقامة شعائره وإظهارها ورفع رايته هو الغاية العظمى والأولوية الكبرى التي عليها تدور حياة المسلمين ، ولأجلها يتركون الأرض والديار .. لأجلها يقطعون الصلات والعلاقات .. لأجلها يبذلون الأموال والنفقات لأجلها يجودون بالأرواح في الساحات .. ذلك هو الدرس العظيم والفقه المستنبط من الهجرة .
وأما الدرس الثاني وهو : وجوب نصرة المسلمين لبعضهم
مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكناً .
قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله : " إذا كان في المسلمين أُسراء أو مستضعفون ؛ فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة بالبدن ، بألا تبقى فينا عينٌ تطرف حتى تخرج إلى استنقاذهم إذا كان عددنا يحتمل ذلك أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحدٍ درهمٌ من ذلك " .
ذلك ليس فقه استنباط ودليل ، لكنه - قبل ذلك - فقه إيمان ويقين ، فقه استعلاء ومعرفة للحقائق الإيمانية .
وعندما مضى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هل وضع رحاله ليرتاح ؟هل ترك أذى مكة لينعم برغد العيش في المدينة ؟ هل خرج من بين الأعداء ليهنأ بالحياة بين الأصحاب ؟ أي شيء صنع صلى الله عليه وسلم ؟
منذ أول لحظة وطأت أقدامه الشريفة مدينته المنورة عمد إلى بناء المسجد وربط المسلمين بالله ، وعمد إلى المؤاخاة لربط العلائق بين المسلمين ، وعمل المعاهدة لتنظيم العلاقة مع غير المسلمين .
ومن لقي بالمدينة ؟ اليهود - عليهم لعائن الله - ، ولننظر ونستمع إلى كلام علمائنا وأمّتنا لنعرف فقههم الإيماني والعلمي معاً .
هذا وصفٌ لابن القيّم رحمه الله يصف فيه اليهود عليهم لعائن الله يقول عنهم :" هم الأمة الغضبية ، أهل الكذب والبُهت والغدر والمكر والحِيل ، قتلة الأنبياء ، وأكلة السُحت - وهو الربا والرشا - أخبث الأمم طوية ، وأرداهم سجية ، وأبعدهم من الرحمة ، وأقربهم من النقمة ، عادتهم البغضاء ، وديدنهم العداء والشحناء ، بيت الكذب والسحر والحِيَل ، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء حرمة ، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ، ولا لمن وافقهم عندهم حقٌ ولا شفقة ، ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نصفة ، ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمنة ، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة ، بل أخبثهم أعقلهم وأحذقهم أغشّهم أضيق الخلق صدوراً ، وأظلمهم بيوتاً ، وأنتنهم أفنية ، وأوحشهم سجية " .
أليست هذه الصفات اليوم هي عين التعصب والعنصرية ؟ أليس هذا هو جوهر العنف والإرهاب ؟ فماذا يقول اليهود ؟ ليس في أقوال علمائهم ، بل في المسطور في كتبهم بما حرّفوه !
ألا يقولون : " إن أمم الأرض كلها كلابٌ يجوز قتلها لليهود ، وأموالهم حلالٌ يجوز سبيها لهم ، ونسائهم حلالٌ يجوز استمتاعهم بها " ، ولا يجرؤ أحدٌ أن يقول ذلك ، ويتكلمون على مناهج تقول شيئاً من الحق التي تؤكده الوقائع المعاصرة ، والحقائق التاريخية الظاهرة ، والانحرافات العقدية المكتوبة المُثبتة فأي شيء جرى لأمة الإسلام عند المواقف الأولى ونحن لا نسرد السيرة .
انتصر النبي في بدر فغلى الحقد في قلوبهم ، وجاشت البغضاء في نفوسهم ، وظهرت أساليب الغدر والكذب والكيد والمكر على ألسنتهم ، ثم تفاعل ذلك كله فظهر في تصرفاتهم امرأة عربية دخلت إلى سوق بني قينقاع تبيع شيئاً لها جلست إلى صائغٍ ، فجاء بعض سفلة اليهود يريدونها أن تكشف وجهها فأبت بإيمانها ، فعمدوا إلى طرف ثوبها فعقدوه بأعلاه ، فلما قامت انكشفت عورتها ، فجعلوا يتضاحكون ويستهزئون ويسخرون .. موقفٌ واحدٌ في أمرٍ عارضٍ لامرأة واحدة ، أي شيء جرى ؟ صاحت مستنجدة أهل الإيمان والنخوة والإسلام ، فانتدب لها مسلمٌ من غير عقد مؤتمر ولا مشاورات سياسية ، ولا بحوث وبحث في القوانين الدولية ، بل امتضى لها ينتصر لها وعمد إلى الصائغ فقتله ، فاجتمع عليه اليهود فقتلوه ، فأحاط بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحاصرهم وأجلاهم من بعد ، وأخذ من أموالهم ما أخذ ، وخرجوا أذلة صاغرين يوم كان كذلك المؤمنون عزوا ، وارتفعت رايتهم ، وعظمت هيبتهم ، وقويت شوكتهم ، وكانت لهم في دنيا الناس كلمتهم .
أفليست هذه دروس مهمة ؟ أفليست هذه صورٌ حية ؟ أفليست هذه صفحات ينبغي أن ننقشها على قلوبنا ، وأن نجريها مع الدماء في عروقنا ؟ وإلا بقينا أذلة صاغرين ! وإلا بقينا تافهين مغيبين ! وإلا بقينا تحت ذل وقهر الغلبة والظلم الذي يُسلط على المسلمين ..
نسأل الله عز وجل أن يرفع الغمة ، وأن يكشف البلاء عن الأمة ، وأن يُعيدها إلى العزة ، وأن يُخلف عليها في دينها استمساكاً بكتاب الله واعتصاماً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الهجرة تأكيد للزوم الثبات على الدين ، وإعلانٌ لإظهار أولوية الدين في حياة المسلمين ، وبيانٌ أن التضحية تكون بكل شيء لأجل إعلاء الدين .
إذا فقهنا ذلك ونحن ننظر إلى واقعنا اليوم وماذا نرى فيه ؟ .
عجزٌ عربي ، ووهنٌ إسلامي ، وخزي سياسي ، وصورة مشوهة حقائق الإسلام فيها غائبة ن ومرتكزات العقيدة واهية .. ولذلك نرى ما نرى من هذه العجائب ، ونرى الغرائب ونحن نعرف ونسمع أن هذه القوات الباغية الغازية الظالمة العادية قد أعلنت بما ذكرته بألسنتها أنها " حرب صليبية " ، وأيّدت وأكدّت أنها تريد أن يكون لها الهيمنة العسكرية السياسية وأظهرت وكشفت أنها تريد أن تستولي على الموارد الاقتصادية ، وبيّنت وكشفت أنها تريد أن تهيمن على ما وراء ذلك من الأوضاع الاجتماعية ، والمناهج التعليمية ، والنُظم السياسية ، والأوضاع كلها ، وبعد ذلك نقول ما نقول ، ونسمع ما نسمع من هذه العجائب التي لاشك أن فيها معارضة يقينية ظاهرة واضحة لثوابت لا تتغير من الإيمان والإسلام ، ولحقائق لا تُنسخ من آيات القرآن ، ولمعالم واضحة جلية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة .
ولذلك - أيها الأخوة الأحبة - نكرر ما أسلفنا القول فيه : الكفر كفر ، وأهله أهل بغي وعدوان ، جمعوا ذلك مع هذا ، فليس لهم في قلب مؤمن محبة ولا موالاة ، وليس لهم في عمل مسلم نصرة ولا محاباة ، وإلا أنكر ذلك الإيمان في قلبه ، أو نقض الإسلام في حقيقته ، وأن هذا نطقت به الآيات ، وظهرت به حقائق الإسلام جلية واضحة .
ثم من بعد ذلك نرى ما نرى من دروس الهجرة في هذا التلاحم الإيماني والتواصل الإسلامي ، والأخوة التي نصّت عليها آيات القرآن ن ونرى كذلك من وراء ذلك أن يكون الدين هو رائدنا وغايتنا الأولى ، من كان مستمسكاً به ، ورافعاً له ، حقاً لا كذباً ، وصدقاً لا ادّعاءاً ، وواقعاً لا زوراً ، فنكون نحن أهل دين ، ونكون أهل نصر مع أهل اليقين بإذن الله عز وجل .
ولذلك ينبغي لنا أن نكون على بصيرة من أمرنا ، وعلى بيّنة من حقائق ديننا ، وأن نكرر ونزيد التكرار والإعادة ، وضرورة الاستمساك والاعتصام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والنظر في أقوال الأئمة من العلماء الصادقين الذين كانوا أهل إيمان ويقين قبل أن يكونوا أهل فقه في الدين .
ولذلك من بعد هذا نتواصى بالثبات على ذلك ، ونتناصر ونتعاهد على البقاء عليه ، وعلى إشاعته فيما بيننا ، وقد ذكرنا - من قبل - اللجوء إلى الله والاعتصام به ، والتضرع إليه ، والابتهال والذل بين يديه .
وذكرنا من بعد ذلك ومن قبله الاستقامة على أمره ، والاعتصام بنهجه والالتزام بدينه ، وترك المعاصي والمحرمات ، والابتعاد عن المنكرات والمخالفات ، ولعل ذلك كله في جملته هو من درس الهجرة ؛ فإن الهجرة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح عنه : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) .
و النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هاجر ليُقيم شعائر الدين ، وليجد الأرض التي يُعلي فيها راية الله – سبحانه وتعالى - عندما لم يجد ذلك في مكة التمسه في الطائف ، فلم يجده وذهب بأصحابه إلى الحبشة ، فلم يثبت حتى يسّر الله له هجرته المباركة ، فأقام دولة الإسلام ، وأنشأ مجتمع الإسلام ، وأقام العزة الإيمانية ، والوحدة الإسلامية ، ثم جاءت هيبة هذا الدين وقوته ، وظهرت من بعد ذلك - أيضاً - سماحته ورحمته بالأمم ؛ فإن الإسلام كان أرحم بكل الأمم من أديانها ومن حكامها وكذبوا وخدعوا عندما يقولون غير ذلك .
نسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً ، وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم مستعصمين .