ما الذي فعله بنا الحنين؟
أحفاد عبدالله الصغير يأكلهم الحنين إلى الأندلس.
العراقي المنفي في شعاب الأرض يمضغه الحنين إلى بابل.
الروسي الكهل يذرف الدموع حنيناً إلى معطف غوغول في شوارع بطرسبورغ.
المصري الوحيد في عزلته الأوروبية الباردة يحن إلى حضن نفرتيتي.
الفلسطيني يحن إلى قهوة أمه وخبز أمه، ويبكي إذا رأى دمعة أمه.
المرأة ذات الأربعين خريفاً وخوفاً من العمر يغمرها ماء الحنين، وهي تتذكر طفولتها في المدرسة الابتدائية حيث فستانها المخطط بالأخضر وربطة الشعر التي كذيل الحصان.
الرجل ذو الأربعين خريفاً وخوفاً أيضاً يستلقي تحت الحنين الذي يتحول في هذه اللحظة إلى شلال دموع، ويأخذ باستعادة صباه وشبابه ورعونته وطيشه.. يتذكر تحديداً الشجر المرتفع في حرم الجامعة حيث كان يهرب من محاضرة التاريخ.. إلى التاريخ الأبيض المصقول على ذراع فتاة آنذاك، أصبحت أمس امرأة، وصارت اليوم بقايا امرأة.
المقاتل الشاب ذو البدلة الكاكية بألوانها التي تشبه التراب وورق الأشجار والحجارة يحني رأسه على ذراعه، ويطلق العنان لعينيه لكي تسكب كريستال الدمع على كمّ قميصه، وهو يرى اليوم كم تحوّل من مقاتل إلى محتال.
السياسي الأشيب الذي أعطى الأيديولوجيا أكثر مما أعطى أمه وأولاده يتوكأ على عصا، وفي كل خطوة أو خطوتين على قدميه ثمة خطو آخر في درب الحنين، وهو يرى صورته في المرآة عجوزاً سياسياً أشيب هجرته “الثورة” وهجره “الرفاق” فصار طللاً على هيئة رجل.
ما الذي فعله بنا الحنين؟
سليم بركات شاعر اللغة التي لا تنضب من ينابيعها الأرضية وحتى السماوية يقول “.. إذا شعرت بالحنين إلى مكان ما فلا تعد إليه أبداً..”.
هذا بالنسبة إلى الحنين إلى مكان.
ولكن ماذا يفعل “مرضى” الحنين المسكونون إلى الأبد بفكرة جميلة وقضية نبيلة وامرأة تشبه قوس قزح وذاكرة محتشدة بالناس، وحتى الكائنات الصغيرة من النملة وحتى العصفور.
ماذا يفعل مريض الحنين إلى صورة عبدالناصر مثلاً، وإلى قبّعة جيفارا وعصا توفيق الحكيم وإزار غاندي وسيجار تيتو، وحتى الحنين إلى حذاء خروتشوف.
الحنين كعصفورة القلب، ولكنها عصفورة لا تأكل قلب الإنسان بقدر ما تجدد دورته الدموية